أوكرانيا التي تشبه كل ضحايا الإمبراطورية الروسية، توالت العصور وتداخلت الإمبراطوريات وهي تتقاسم أوكرانيا، وحق تقرير مصيرها والرغبة في استقلال القرار كان طريقا طويلا محكوما بالمصالح حينا وبالعداء أحيانا وبالدماء في أحيانا كثيرة.
أوكرانيا ليست مشكلة إنسانية، إنهاء أزمة استثنائية دامية تمس مستقبل التوازنات بين روسيا والغرب، وركائز البيت الأوربي الذي شُيَّدَ علي أنقاض الأخرين.
تاريخ بداية حرب غيرت ومنذ أيامها الأولي حياة الملايين، ووجه بلد وقارة، اعتقدت أن كابوس الحرب العالمية الثانية لن يتكرر!
وعلى نار الحرب الأوكرانية ستولد روسيا جديدة وأوروبا جديدة وأمريكا جديدة، وولادة نظام عالمي جديد، تغيير هو الأول من نوعه منذ انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي، فلائحة ضحايا الأزمة الأوكرانية طويلة والاقتصاد العالمي يحتل موقعا متقدما فيها.
وعلي أعتاب الحرب الروسية الأوكرانية وما أعقبها من تطورات عالمية متزلزلة، فوجئ العالم ولم يتوقع أن يدفع سيد الكرملين أوروبا، خلال أسابيع إلى حافة الهاوية، ولم يتوقع أن تستيقظ في القارة الأوربية القديمة مفردات ومعاني من نوع الغزو والاجتياح والحروب والدمار، وأن تتلاحق المناورات السياسية والعسكرية على نحو يدفع جنرالات حلف الناتو إلى تحديث الخطط القديمة وإعادة روسيا إلى موقع العدو الأول والأزلي.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تشهد أوروبا هذا القدر الهائل من التخويف والتضليل، لم تتوقع الدول الغربية أن ترغم على تحسس ترساناتها والعودة إلى سيناريوهات الغارات وقوافل اللاجئين التي خلفتها الحروب القديمة.
ويبرهن علي تلك النظرة الروسية للقرية الكونية تصريحات المستشار الألماني أولاف شولتس، التي أقل ما يقال عليها هي أنها تصريحات خارقة وحارقة ومتفجرة: "هجوم روسيا على أوكرانيا يمثل نقطة تحول في تاريخ قارتنا.. بوتين يحاول أحياء الإمبراطورية الروسية، ولن يتوقف عن استخدام القوة".
في المقابل نجد أن بوتين خلال مسيرته السياسية، لم يرغب أبدا أن يكون جزءا من النظام الدولي الحالي، بل أراد نسفه، والناتو أشعل له الفتيل.
مشاهد صاخبة، مليئة بالدلالات العميقة، سياسيا واستراتيجيا، فى خطة الكرملين للدفاع عن أمنه القومى، وعن إرث الأمجاد السوفيتية، من وجهة نظرها باجتياح الجارة، والإرث التاريخى أوكرانيا، بعد قرارها الارتماء فى حضن أقوى تحالف عالمى حاليا الناتو والعدو التاريخى لروسيا، الأمر الذي سيكون له تداعيات سياسة واقتصادية وعسكرية خطيرة علي الكرة الأرضية.
نادي الرئيس فلاديمير بوتين عبر سنوات كثيرة، أن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، واقترابه من شواطئ البحر الأسود، خط أحمر، لا يمكن قبوله، ودونها الرقاب، حينئذ تختفي المناقشات وتتوقف الحوارات السياسية، عندما يتهدد الأمن القومى للدول، ويرتفع فقط صوت المدافع والصواريخ وأزيز الطيران. فالأمن القومى والعمق الاستراتيجي للدول، خطوط حمراء، تحميها القوة فقط لا غير!
والجدير بالذكر أن الرئيس الروسي بوتين عاصر انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل قوة عظمى ووصفه بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين قائلا: "من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفيتية.. إنسان بلا قلب، ومن يعاوده التفكير في إمكانية إعادة مثل هذه الدولة.. إنسان بلا عقل" وبالتأكيد يحمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين المسؤولية عن انهياره، ولديه قناعة أن الولايات المتحدة تعتبر روسيا هي العدو الجيوسياسي لها.
ومن خلال تصريحات قادة الكرملين، نجد أن سياسة الانكفاء وعدم خوض الحروب سوف تؤدي إلى وصول الحرب إلى الداخل الروسي ولمنع تكرار تجربة الاتحاد السوفياتي يسعى القادة الروس إلى نقل الحرب إلى خارج حدود البلاد.
والسؤال الذي هو عنوان المقال مخاوف الغرب .. ماذا لو فاز بوتين في الحرب؟ هزيمة روسيا لأوكرانيا تسبب تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي طموحات حلف الناتو والنظام العالمي القائم، وبداية حقبة تسيطر فيها قوي عالمية صاعدة وخلق 3 كتل في العالم (أميركية، وروسية، وصينية)، وأن تعم الفوضى والصراع العالميين؛ حيث تتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة.
وعندما ينتهي الجيش الروسي من مهامه و عملياته ومخططاته، سيكون قادر على نشر قوات برية وجوية وصاروخية في قواعد بغرب أوكرانيا وكذلك في بيلاروسيا وكازاخستان ، التي أصبحتا فعليا وكلاء لروسيا.
وبالتالي سيتم تجميع القوات الروسية على طول الحدود الشرقية لبولندا التي يبلغ طولها 650 ميلا، وكذلك على طول الحدود الشرقية لسلوفاكيا والمجر والحدود الشمالية لرومانيا، ومن المحتمل أن يتم وضع مولدوفا تحت السيطرة الروسية أيضا، وسيكون التهديد الأكثر إلحاحا على دول البلطيق، إذ تقع روسيا بالفعل على حدود إستونيا ولاتفيا مباشرة وتلامس ليتوانيا عبر بيلاروسيا ومن خلال موقعها الأمامي في منطقة كالينينغراد.
و الإستراتيجية الجديدة للكرملين الذي يعمل علي تفعيلها هي فك ارتباط دول البلطيق بحلف شمال الأطلسي، من خلال إثبات أن الحلف لا يمكنه بعد الآن أن يأمل في تقديم الحماية لتلك البلدان، ومع وجود بولندا والمجر و5 أعضاء آخرين في الناتو يتشاركون الحدود مع روسيا الجديدة الموسعة، فإن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف شمال الأطلسي على الدفاع عن الجناح الشرقي للحلف سوف تتضاءل بشكل خطير يخشاه الحلفاء الغربيين.
إن الحرب الروسية الأوكرانية أكبر بكثير من مجرد مسألة تتعلق بأمن دولة ذات سيادة، وإن المعركة من أجل تلك الدولة الواقعة في شرق أوروبا ثاني أكبر مساحة بعد روسيا في القارة، هي نزال من أجل النظام العالمي الجديد، إن مفهوم بوتين لأهمية أوكرانيا المحورية في ضمان مكان لها على الساحة الدولية راسخ منذ أمد طويل في القومية الروسية المتشددة، و هذا المفهوم أقر به قادة روس قبل عقود، فهم يرون وجود أوكرانيا تابعة، وجود لروسيا قائمة.!
الوضع الراهن قد يفرض تعديلات كبيرة وهائلة في معنى وهدف ونوايا حلف الناتو، فالرئيس بوتين يريد إعادة تأسيس مجال نفوذ روسيا التقليدي والماضي في شرق ووسط أوروبا، ويسعى حاليا، إلى تشكيل حلف الناتو من مستويين، حيث لا تنتشر قوات التحالف على أراضي حلف وارسو المعروف باسم معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة والذي أسس في 14 مايو عام 1995 خلال الحرب الباردة؛ أي أن جميع دول شرق أوروبا التي على حدود روسيا، ويسعى أيضا إلى إنشاء كتلة أمنية أوروبية جديدة مع وجود القوات الروسية على طول الحدود الشرقية للناتو، متمثلة في قوله: "لا حاجة لوجود العالم مادامت روسيا ليست موجودة فيه".
وعلي غرار حلف وارسو تأتي دول البلطيق ومحاكاة لنفس سيناريو حلف وارسو فالموقف الحالي لحلف شمال الأطلسي غير ملائم أبدا للدفاع عن جمهوريات البلطيق والتي تعتبر قنبلة موقوتة بين روسيا والناتو ، الأمر الذي يجعل الدخول في مواجهات مباشرة مع الدولة الروسية مستحيلة وخطيرة.
وفي الواقع أن روسيا لديها القدرة على الاجتياح السريع لواحدة أو أكثر من دول البلطيق، الأمر الذي من شأنه أن يخلق وضعا لا يعرض حلف شمال الأطلسي والولايات
المتحدة لشيء سوى التمدد الروسي في القارة الأوربية.