أفلام عدة عُرضت غداة افتتاح مهرجان "كان" السينمائي الـ76. مر يومان ولا تزال الحماسة ظاهرة على الوجوه. لا تعب ولا قلة نوم ولا فقدان رغبة في الاطلاع على المزيد، هذا ما يحصل عادةً لدى البعض بعد مضي بضعة أيام على انطلاق كل دورة، وبعد الذهاب والاياب المتواصلين على الكروازيت. نظام الحجز الإلكتروني المسبق لا يزال يزعج الكثيرين، خصوصاً مَن لا تجمعهم بالإنترنت علاقة وطيدة، وهو يغيظ أيضاً الذين ليسوا من أصحاب البادجات التي تمنح أولوية الحصول على تذاكر. كانت السماء غداة الإفتتاح ملبدة بالغيوم (رغم أن الأرصاد الجوية توقّعت جواً سيئاً في ليلة الافتتاح)، فتساقطت أمطار خفيفة على رؤوس رواد المهرجان. استغل المنظمون الطقس لبث أغنية "غناء تحت المطر" خلال صعود النجوم على السجادة الحمراء، لكن بالنسبة إلى الكثيرين ممن تدافعوا لمشاهدة الأفلام، كان الشعار: "الوقوف في الطوابير تحت المطر".
بعد فيلم الافتتاح، "جانّ دو باري"، الذي لا تزال أصداؤه تتردد في أرجاء الكروازيت، شاهدنا أحدث أعمال المخرج الألماني الكبير فيم فندرز العائد إلى المهرجان مع فيلمين، عُرض أحدهما، "أنسلم" (قسم "عروض خاصة")، أول من أمس في صالة "لوميير" الكبرى. 2300 مقعد كانت محجوزة للعرض العالمي الأول لهذا العمل الذي أراد مخرج "باريس تكساس" ("سعفة" كان 1984) تصويره بالأبعاد الثلاثة. يصعب تصنيف الفيلم في أي من الأنواع السينمائية المعروفة. لا هو وثائقي ولا هو روائي ولا هو دوكودراما تقليدية. أما المضمون فهو شذرات من سيرة التشكيلي الألماني والفنان المعاصر أنسلم كيفر (1945).
بعدما وجد ضالته في الموسيقى الكوبية مع "بوينا فيستا سوشل كلوب" ونقل تجربة الراقصة الألمانية بينا باوش في فيلم حمل اسمها، ثم تعمّق في أعمال المصوّر البرازيلي سيباستياو سالغادو في"ملح الأرض"، ينكب فندرز على أنسلم، عمله وأفكاره وتاريخه الشخصي المتداخل مع تاريخ ألمانيا، في توليفة بصرية صوتية تجمع بين الواقع والخيال، وبين الماضي والحاضر، وبين الفنّ والفلسفة. ولا يمانع فندرز أن يستعير من الأرشيف أو أن يعيد إحياء الماضي كما في أي نص روائي. أنسلم كيفر من جيل فندرز، لا بل ولد كلاهما في العام نفسه، ألمانيان كلاهما ، عبرا عقود من تاريخ بلادهما وتطورها وتقلباتها. طرح كلاهما تساؤلات في شأن الماضي في عملهما، حيث يتقاطع الكثير من الشؤون والهموم. هذا التقارب بين الرجلين محسوس على الشاشة، حتى لو غاب فندرز عنها جسدياً، فالتواطؤ موجود. ينوب أنسلم عن فندرز على الشاشة. هذا التعاون هو من صميم الفيلم، اذ يعطي الانطباع بأن ثمة حواراً بين الرجلين. لا شيء كلاسيكياً في "أنسلم" الذي يعج بالأفكار الإخراجية الخلاقة. إنها رحلة نفسية وفنية وتاريخية يزجنا فيها فندرز مستلهماً المناخ البصري من عالم أنسلم نفسه.
يجيد فندرز الدخول إلى عالم أنسلم في محاولة لا تهدأ في تفكيك هواجسه ومخاوفه وآماله. هذا كله من خلال جماليات تخطف النفس في بعض فصول الفيلم. أما الخروج من هذا العالم المزدحم، فسيكون صعباً لشدة ما يترك أنسلم خلفه من آثار، لا على مستوى المشاعر فقط، بل في ما يتعلق بأشياء ملموسة. هذا عالم فلسفي ومادي أيضاً: لوحات، منحوتات، صور. خيار فندرز في تصوير أشياء أنسلم بالأبعاد الثلاثة ممتازة، فهذه التقنية تجعلنا أقرب منها، وكأننا قادرون على لمسها، وهي تتيح لنا أكثر من مجرد فرجة بل تجربة إنغماسية، مع تنويه خاص للموسيقى التي ألفها ليونارد كوسنر والتي تعزز هذا الشعور. نتأمل أنسلم خلال عمله، هذا الذي يمكننا القول إنه يزداد غموضاً كلما حاولت الكاميرا نبش عقله ووجدانه.
وكالات