عبر أثير الإذاعة الأردنية، انبعث صوت كوثر النشاشيبي كهمسة دفء وسط برودة المسافات، ليحمل رسائل شوق وأمل بين الفلسطينيين المشتتين في أصقاع الأرض وأحبائهم في الضفة الغربية. كانت النشاشيبي أكثر من مجرد مذيعة؛ كانت جسرًا من الكلمات، وحلقة وصل بين القلوب التي فصلتها الحدود والاحتلال، لكنها ظلت موحدة بالمحبة والتواصل.
البدايات في القدس.. خطوات نحو الأثير
وُلدت كوثر النشاشيبي عام 1930 في مدينة القدس، وسط عائلة مقدسية معروفة. منذ صغرها، امتلكت صوتًا يحمل دفئًا وصدقًا نادرين، ما مهد لها الطريق لدخول عالم الإذاعة. بدأت رحلتها في إذاعة رام الله، حيث قدمت برامج للأطفال. ولأن العمل الإذاعي للفتيات لم يكن مقبولًا مجتمعيًا آنذاك، عملت بسرية دون ذكر اسمها الحقيقي، حتى لا تواجه رفض العائلة.
إلى عمّان.. الانطلاقة الحقيقية بإصرار وشغف
كان العام 1960 نقطة تحول في مسيرتها، حيث انتقلت إلى عمان للعمل في الإذاعة الأردنية بعد تشجيع الشهيد وصفي التل، الذي رأى في صوتها قدرة على التأثير وملء الأثير بالحياة. رغم معارضة أهلها، أصرت على شق طريقها في المجال الإعلامي، لتصبح واحدة من أبرز الأصوات التي تردد صداها في كل بيت أردني وفلسطيني.
في عام 1965، وقّعت عقد عمل مع الإذاعة الأردنية بقيمة 36 دينارًا شهريًا، وبدأت مسيرتها التي ستجعلها "أم الإذاعيين"، حيث احتضنت المواهب الشابة وساهمت في تأهيلها ووضعها على درب النجاح.
"رسائل شوق".. صوت يوحد القلوب عبر الأثير
أصبح برنامجها الأشهر "رسائل شوق" نافذة أمل لعائلات مزقتها المسافات والاحتلال. لم يكن التواصل بين الفلسطينيين في الضفة وغزة وأقاربهم في الخارج متاحًا بسبب انقطاع الاتصالات وعدم وجود علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والدول العربية، فكانت الإذاعة الأردنية المنبر الوحيد لنقل رسائل المحبة والأخبار العائلية.
بدأ البرنامج بمقدمة غنائية بصوت فيروز:
"جايبلي سلام عصفور الجناين... جايبلي سلام من عند الحناين"
ثم يأتي صوت كوثر النشاشيبي الدافئ، يقرأ رسائل مشحونة بالحنين، ترسلها الأمهات والآباء من الأردن، الخليج، سوريا، ولبنان إلى أحبائهم في الضفة الغربية. كانت بعض الرسائل تحمل أخبار المسافرين، وأحيانًا نعي الأحباب الذين رحلوا دون وداع.
أصبح البرنامج طقسًا أسبوعيًا مقدسًا، يتسمر الجميع أمام المذياع بانتظار أصوات أحبائهم بين كلمات النشاشيبي، التي أتقنت نقل المشاعر بصدق جعلها جزءًا من العائلة في كل بيت.
إرث إذاعي غني.. من الإنسانية إلى قضايا المجتمع
إلى جانب "رسائل شوق"، قدمت النشاشيبي عدة برامج اجتماعية وإنسانية، منها:
برنامج الأسرة: تناول قضايا اجتماعية من خلال مشاهد تمثيلية تقدم حلولًا للمشكلات العائلية.
لمسة حنان: ركز على الحالات الإنسانية، مسلطًا الضوء على قصص المحتاجين والمبادرات الخيرية.
ما يطلبه المستمعون: تفاعل مباشر مع الجمهور، لبى طلباتهم من الأغاني والرسائل.
الوجه الآخر.. العمل الاجتماعي والدفاع عن المرأة
لم تكتفِ كوثر النشاشيبي بدورها الإذاعي، بل كانت ناشطة في الجمعيات الخيرية والاتحاد النسائي الأردني، مدافعة عن حقوق المرأة وساعية لتحسين ظروفها. قدمت دعمًا كبيرًا للكثير من النساء، وساهمت في نشر الوعي الاجتماعي حول قضايا الأسرة والتعليم والمساواة.
تكريم ملكي.. ووداع يترك أثرًا خالدًا
تقديرًا لعطائها الكبير، منحها جلالة الملك عبدالله الثاني وسام الاستقلال من الدرجة الثانية، تقديرًا لإسهاماتها الإعلامية والاجتماعية. لكنها في سنواتها الأخيرة واجهت معركة مع المرض، الذي لم يثنها عن أداء رسالتها حتى اللحظات الأخيرة.
في 12 سبتمبر 2004، رحلت كوثر النشاشيبي، تاركة إرثًا إعلاميًا وإنسانيًا لا يُنسى. تبعها زوجها ورفيق دربها عصمت النشاشيبي بعد فترة وجيزة، لكن صوتها ظل محفورًا في ذاكرة الملايين، كأيقونة عصر ذهبي للإذاعة الأردنية.
إرث خالد في الذاكرة العربية
لم تكن كوثر النشاشيبي مجرد مذيعة، بل كانت صوتًا للإنسانية، رسولًا للسلام والمحبة بين الشعوب، وحلقة وصل بين القلوب التي فرقها الاحتلال وجمعتها أمواج الأثير. ورغم رحيلها، فإن ذكراها تبقى شاهدة على قوة الكلمة وأثر الإعلام الصادق في حياة الناس.