في مدينة أم درمان، المدينة الأكبر والمحاذية للجهة المقابلة للعاصمة الخرطوم، وفي شهور عام 1935م وُلد عبد الرحمن سوار الذهب، الذي تلقى تعليمه وحفظه للقرآن على يد والده، وفي العام 1955م تخرج في الكلية الحربية في السودان، وتلك السنة التي كانت المشاورات على أشدها بين السودانيين من جهة والمصريين ثم الإنجليز من جهة أخرى، وما جاء العام التالي إلا والسودان قد نال استقلاله التام، ودخلت أحزابه في صراعات السياسة والنفوذ حتى قام الانقلاب العسكري الأول، وهو الانقلاب الأبيض أو السلمي بزعامة الفريق إبراهيم عبود.
تدرج عبد الرحمن سوار الذهب في المناصب العسكرية، ورأى سيطرة الجيش على مقاليد السياسة في السودان مع انقلاب عبود وجعفر نُميري، وحين حاول الضابط الشيوعي الرائد هاشم العطا الانقلاب على النميري في عام 1971م، كان سوار الذهب مسؤولا عن الحامية العسكرية في مدينة الأبيض، ورفض أن يُسلّم المدينة للانقلاب الشيوعي، ورغم ذلك أصدر نميري قراره بإبعاده عن السودان، فاتجه صوب قطر حيث عمل فيها مستشارا عسكريا للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وكان لسوار الذهب الفضل في إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية القطرية حين فصل الجيش عن الشرطة.
عاد سوار الذهب إلى السودان مرة أخرى في عام 1975م وقد تحسّنت علاقته بالنميري الذي كنَّ له ولاء كبيرا باعتباره رأس الدولة السودانية، ثم ما لبث أن ترقى حتى وصل إلى منصب رئيس هيئة الأركان، ثم رُقي إلى منصب وزير الدفاع السوداني والقائد العام للقوات المسلحة في مارس/آذار 1985م قبل أيام قليلة من انتفاضة السودان ضد حكم النميري.
كان سوار الذهب وهو في منصب القائد العام للجيش السوداني يرى تطلعات السودانيين، كما يرى غضبهم الذي بلغ أوجَهُ حينذاك بسبب تقلبات النميري السياسية والحادة ما بين الاشتراكية والتيار الإسلامي ولعبه على الحبال، وفوق ذلك الوضع المتأزم بسبب سياسته الخاطئة والحادة في المشكلة الجنوبية التي كانت تتوسع منذ الاستقلال، والتي زادت مع إعلانه "تطبيق الشريعة الإسلامية" حتى على الجنوب ذي الأغلبية المسيحية، فضلا عن الأوضاع الاقتصادية البائسة التي اضطرت النميري حينها في مارس/آذار من العام نفسه إلى السفر إلى الولايات المتحدة لمقابلة كبار المسؤولين في واشنطن والبنك الدولي بهدف الحصول على قروض عاجلة.
يقول سوار الذهب في أحد لقاءاته التلفزيونية: "حاولنا تلمس شعبية الرئيس (النميري) في تلك الأوقات، فدعونا لتظاهرة واسعة جدا أردناها مليونية للتأكيد أن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني لا يزال يتمسك بالرئيس جعفر النميري، لكن بكل أسف الذين جاءوا لهذه التظاهرة رغم الإعداد الواسع لها كانوا أقل القليل من الشعب السوداني، ففي تلك اللحظة أدركتُ أن شعبية الحكم الذي كان قائما لم تعد موجودة، وبالتالي كانت هناك مسؤولية كبيرة على عاتق القوات المسلحة للحفاظ على النظام العام، وأن الدفاع عن هذا النظام ستكون عواقبه كبيرة وصدامية مع الشعب، فتشاورت مع إخواني في القيادة العامة، ومررت على الوحدات العسكرية فشعرت أن هناك رغبة عامة للاستجابة لمطالب الشعب السوداني الذي كان يريد أن يُغير هذا الحكم بحُكم ديمقراطي، فما كان مني إلا أن أعلنت أننا (الجيش) ننحازُ إلى جانب الجماهير ونُنهي الحكومة القائمة ونحكم البلاد لفترة انتقالية محدودة نجري خلالها تعديلات في الدستور ثم بعد ذلك نُجري انتخابات واسعة ونسلم بعد ذلك الحكم للحزب الفائز وحينها نتنازل عن الحكم له.
حلَّ سوار الذهب الحكومة، كما حلَّ جهاز أمن الدولة سيئ السمعة في زمن النميري، بل إنه فوق ذلك اعتقل كافة رجاله ترضية للشارع السوداني[6]، واستدعى وكلاء الوزارات إلى مكتبه في وزارة الدفاع للاجتماع العاجل بهم للوقوف على الأوضاع العامة في البلاد بصورة دقيقة، وكلهم أوصل إليه مدى الأوضاع البائسة والمزرية في وزاراتهم آنذاك، وافتقادهم للكثير من المستلزمات والمتطلبات العاجلة، حتى صُدم سوار الذهب بأن السودان كان يفتقد كل الافتقاد للعُملة الصعبة لشراء البترول الذي كان يكفي لسبعة أيام فقط بحسب ما أخبره المسؤولون عن هذا الملك وقتذاك.
وبسبب علاقة سوار الذهب القوية والمتينة بدول الخليج، وهو الذي عمل في قطر لمدة ثلاث سنوات مستشارا عسكريا لأميرها الذي أشار وأشاد للملك فهد آل سعود بشخصية سوار الذهب وانضباطه، وكان لإشادة أمير قطر أثرها السريع، فقد أمر الملك فهد بإرسال معونات عاجلة للسودان في صورة أموال دولارية قُدرت بـ 60 مليون دولار وبترول استطاع أن يسد حاجة البلاد لسنة كاملة كما يروي سوار الذهب في أحد لقاءاته.
تشكّل في تلك الفترة الأولى من انقلاب سوار الذهب ما سُمي بـ "التجمع" السياسي من بعض الأحزاب والمهنيين، واستُبعد فيه الإسلاميون من الجبهة الإسلامية والإخوان المسلمين الذين أفرج عنهم سوار الذهب، ولم يُستدعوا إلى المشاركة في الحكومة المؤقته التي تشكّلت في 22 أبريل/نيسان بعد أسبوعين من الإطاحة بالنميري، برئاسة نقيب الأطباء جزولي دفع الله، الذي دفع ثمنا لمواقفه بالسجن في عهد نميري، وذلك بحجة أنهم كانوا من أنصار ومؤيدي النميري في سنوات حكمه الأخيرة.
خلال سنة حكم سوار الذهب، نشطت حركة الأحزاب من جديد، بل ظهرت أحزاب وتجمعات لا حصر لها بجانب الحزبين الكبيرين "الأمة" المعبر عن الحركة المهدية بزعامة صادق المهدي الذي كانت تربطه علاقات قوية بالقذافي في ليبيا ومصر وبريطانيا، والحزب الاتحادي الديمقراطي المعبر عن الختمية، كما ظهر الإخوان المسلمون من جديد بقوة بزعامة حسن الترابي الذي راح يجول في الداخل والخارج تدعيما لمركز الإخوان داخليا وإقليميا بل ودوليا، وكذلك برز الحزب الشيوعي السوداني، فضلا عن أحزاب وتجمعات أصغر مثل الحزب الناصري، والبعثيين، أما الجنوبيون فكانوا على حنقهم الشديد من نميري، ورأوا في المجلس العسكري الانتقالي برئاسة سوار الذهب "نميريين بدون نميري" كما قال زعيمهم جون قرنق.
ولعل ذلك الذي دفع سوار الذهب في هذه الفترة بإعلان أهداف المجلس العسكري الانتقالي الممثلة في الوحدة الوطنية بإجراء انتخابات ديمقراطية، ومعالجة أزمة الاقتصاد، وإنهاء الحرب في الجنوب، وأنه يأمل أن تعود الديمقراطية في البلاد خلال عام.
كان كلٌّ من المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق سوار الذهب والحكومة المؤقتة على دراية بأنهما سيختفيان تماما عند انتهاء الفترة الانتقالية، ولم يدخل الطرفان كثيرا في مشاكسات حول التعديلات الدستورية المقترحة لا سيما ما يتعلق فيها بالشريعة الإسلامية تاركين هذه المسألة للجمعية التأسيسية الجديدة، وأصدر سوار الذهب قانون الانتخابات الذي أعاد العملية الانتخابية التي كان معمولا بها في فترة الستينيات من القرن العشرين، حيث تقسيم الدوائر بين "الخريجيين" و"الأقاليم"، وفي السادس من أبريل/نيسان من العام التالي على خلع الرئيس نميري، وبإشراف مباشر من الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب أُجريت الانتخابات التي استمرت على مدار 12 يوما، اشترك فيها 4.5 مليون ناخب أدلوا بأصواتهم بسلام في 28 ألف مركز اقتراع.
المشير الذي أوفى بوعده!
نال حزب الأمة 38% من المقاعد البرلمانية، كما نال الاتحادي الديمقراطي ما يعادل 29%، بينما أحدث فوز الجبهة الإسلامية بـ 17% من الأصوات مفاجأة في تلك الانتخابات بحصوله على هذه النسبة المرتفعة، بينما للمفارقة خسر زعيمها حسن الترابي في منطقته الانتخابية في الخرطوم بحري، أما بقية الأحزاب والتحالفات فقد فازت بنسب متفاوتة.
أثبت المشير عبد الرحمن سوار الذهب، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ووزير الدفاع السوداني، صدق التزامه بكلمته، وقام بالفعل بحل المجلس العسكري الانتقالي والحكومة الانتقالية عند نهاية الفترة الانتقالية، وقد سأله أحد الصحفيين يوما: هل التزمت بوعدك للسودان وأهله؟ فرد قائلا: "أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يوما فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، فسلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة الجديدة لرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبتُ".
كان انسحاب سوار الذهب من رأس السلطة، كرئيس للسودان ووزير للدفاع، ذلك الرجل الذي ملك في يديه كل شيء في تلك الأشهر العصيبة بُعيد ثورة 1985، حيث الأموال والنفوذ والعلاقات الممتازة بدول الخليج وليبيا ومصر، أمرا محيّرا للغاية، فقد كان بمقدوره أن يستمر على رأس السلطة ويجد مؤيدين له من الداخل والخارج، أو أن يزيد في الفترة الانتقالية لتستمر أعواما بحجة عدم استقرار الأوضاع وسيكون معه كل الحق في ذلك، لا سيما مع الأزمة التي استفحلت في جنوب السودان، لكن الرجل آثر الالتزام بكلمته، والانسحاب من المشهد السياسي في نادرة أخلاقية قلما رأيناها في تاريخ الانقلابات العسكرية في دول العالم العربي في القرن العشرين.
وقد سُئل في ذلك صراحة، فما كان منه إلا أن قال إن بعض أعضاء المجلس العسكري الانتقالي آنذاك كانوا كلما ذكّرهم سوار الذهب بضرورة الإسراع والانضباط في المواعيد لأنهم عما قريب سيُحالون للتقاعد بعد تسليم السلطة للحكومة المنتخبة، كانوا يقولون له: رجاء أن تنسى هذا فإننا سنضطر لتمديد الفترة الانتقالية ولا محالة. لكنه كان يرد في صرامة وحزم: هذا مستحيل، لقد أعلنّا عن فترة انتقالية مدتها سنة واحدة وسنلتزم بكلمتنا للشعب.
كانت صرامة سوار الذهب، وتصميمه على تسليم السلطة للمدنيين، نابعا من تكوينه الشخصي والفكري، وقرين صلة بالتجربة السودانية التي كان فكر الصحوة فيها يملأ الأجواء حينذاك، بل إنه كان على الدوام قريبا من الفكر والتيار الإسلامي وظهر ذلك بعد تقاعُده، وفي جولاته المشتركة مع الترابي حين زارا مصر في أثناء حكومة الصادق المهدي فيما بعد، وأيضا في زهده في المنصب، وقد استشهد في ذلك بما فعله معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية حين تنازل عن الخلافة الأموية وألقاها للأمة لتختار من تراه مناسبا لها، هذا ما ذكره سوار الذهب في لقائه ، وما تجلى في مناصبه التي ارتقاها فيما بعد.
فإنه أصبح من أشهر الشخصيات الفعالة في الدعوة؛ محليا وإسلاميا وعالميا، وقد حقَّق إنجازات مهمة من خلال رئاسته لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، التي شيَّدت الكثير من المدارس والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجئ الأيتام والمساجد، كما أنشأت محطات للمياه وحفرت مئات الآبار في أفريقيا، بل حاول قدر الإمكان المساهمة بوساطته حين كانت تضرب الأزمات السودان مثل أزمة دارفور وألقى بمبادرة للوصول إلى حل في هذا الأمر.
ونتيجة لمشاركاته ونشاطه في مجال العمل الخيري والدعوي فقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام في العام 2004م، وفي الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2018م، توفي الرئيس والمشير عبد الرحمن سوار الذهب عن عمر ناهز الثالثة والثمانين من عمره، موصيا أن يكون مثواه الأخيرة في المدينة النبوية في مقبرة البقيع، وقد تحققت وصيته، تاركا من خلفه نموذجا فذا ونادرا في المسألة السياسية والعسكرية في تاريخ العرب المعاصر! المصدر الجزيرة .