حين نتأمل المشهد الثقافي الأردني خلال العقود الأربعة الماضية، لا يمكن أن نغفل اسم جريس حنّا سماوي شاعرٌ، إعلاميٌّ، ومثقفٌ تماهت سيرته مع التحولات التي شهدها الأردن، فكان صوته حاضراً في الشاشة والإذاعة، ومشاركاً في إدارة المشهد الثقافي من موقعه في المهرجانات والوزارة، ومؤمناً بأن الثقافة فعل وطني وإنساني يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة.
ولد جريس سماوي في مدينة عمّان عام 1956 ونشأ في بلدة الفحيص، حيث تشكّلت لديه الحساسية الأولى للغة والصوت والمكان. في شبابه، هاجر إلى الولايات المتحدة، وهناك درس فن الاتصال الإعلامي في نيويورك، قبل أن يعود إلى الأردن ليلتحق بـ الجامعة الأردنية، ويكمل دراسته في اللغة الإنجليزية وآدابها. هذا المزج بين الخلفية الغربية والانغماس في اللغة العربية وآدابها سيصوغ لاحقاً شخصيته كإعلامي مثقف وشاعر يكتب بوعي مزدوج: محلي وعالمي في آن.
بين عامي 1992 و1997، برز اسم جريس سماوي عبر شاشة التلفزيون الأردني. لم يكن ظهوره عادياً، بل جاء محمّلاً برؤية مختلفة للبرامج الثقافية.
على القناة الأجنبية، أطلق برنامج Jordanisque باللغة الإنجليزية، الذي قدّم فيه صورة الأردن إلى العالم، ليس فقط كبلد سياحي، بل كفضاء حضاري وثقافي.
أما على القناة العامة، فقد عرفه المشاهدون عبر برامج رصينة تركت أثراً عميقاً مثل:
ذاكرة المكان: استعادة لروح الأمكنة الأردنية وتاريخها.
إيماءات: إطلالة على الشعر والفن والفكر.
البرنامج الشهير (يسعد صباحك) وكان يعلق على فقرة بعنوان فارس الحلقة حيث يضيء على شخصيات أردنية متميزة.
كما امتد صوته إلى الإذاعة من خلال برامج مثل ذاكرة نغم ونون النسوة، ليؤكد أن الإعلام الثقافي ليس ترفاً، بل ضرورة لتعريف المجتمع بذاته وصورته.
كان سماوي في كل هذه الأعمال حاملاً لرؤية تقوم على أن الإعلام لا يُختزل باللهجة أو الشكل، بل بالهوية والمضمون. وقد لخّص ذلك في أحد حواراته قائلاً:
"ما نحتاجه في الإعلام الأردني اليوم ليس متعلقاً باللهجة، وإنما بالمضمون والهوية."
بعد تجربته التلفزيونية، انتقل سماوي إلى العمل الثقافي المؤسسي. شغل منصب نائب مدير مهرجان جرش (1997–2001) ثم مديره العام (2001–2006). هناك أثبت قدرة استثنائية على إدارة الفعل الثقافي، فوسّع المشاركة العربية والدولية، وجعل من جرش منصّة للحوار بين الثقافات.
لاحقاً، تولى منصب أمين عام وزارة الثقافة، قبل أن يصبح وزيراً للثقافة عام 2011 في حكومة معروف البخيت. في هذه المواقع، عمل على مشاريع ثقافية وطنية، منها الإشراف على فعاليات عمّان عاصمة الثقافة العربية 2002، والمشاركة في تنظيم جناح الأردن في معارض دولية مثل "إكسبو هانوفر".
رغم انشغاله الرسمي، لم يغادر سماوي الشعر. في عام 2004 أصدر ديوانه «زلّة أخرى للحكمة»، الذي تميز بلغة مشبعة بالتأملات والرموز، حيث يكتب عن الإنسان والغياب، عن الوطن والهوية، وعن الأمل في مواجهة الخسارة.
حصدت قصائده جائزة أفضل قصيدة عربية عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 (بالمشاركة). وترجمت أشعاره إلى لغات عدة: الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية، التركية، وحتى الرومانية. بعض ترجماته صدرت في أمريكا اللاتينية وتركيا، مما أعطى لقصيدته صدى يتجاوز الجغرافيا الأردنية والعربية.
عرف عن جريس سماوي تواضعه ودفء حضوره، وقدرته على الجمع بين الشاعر والإداري، بين الإعلامي والإنسان البسيط القريب من محيطه. ظل يردد أن الثقافة ليست نخبوية، بل حاجة يومية لكل مواطن. وكان حريصاً على أن يبقى قريباً من الشباب والمواهب الجديدة، داعماً إياهم في كل منصب شغله.
في آذار من عام 2021، غيّب الموت جريس سماوي بعد إصابته بفيروس كورونا، عن عمر ناهز 64 عاماً. رحيله ترك فراغاً في المشهد الأردني، لكن حضوره ما زال ماثلاً: في البرامج التي قدّمها، في مهرجانات أشرف عليها، وفي قصائد ستظل شاهدة على شاعر آمن بأن الكلمة فعل حياة.
إن جريس سماوي هو مثال على المثقف الشامل: شاعرٌ لا ينغلق في نصه، وإعلاميٌّ لا يكتفي بالصوت والصورة، ومسؤولٌ لا يذوب في البيروقراطية. إنه رجل حمل الأردن في قلبه، وقدّمه إلى العالم بلغة الشعر والإعلام والثقافة، ليبقى في ذاكرة الناس فارس الحلقة الثقافية بامتياز.