كان صوتُه يحمل شيئًا من نبرة الوطن؛ دفءُ السهول الشمالية، وصدقُ الريف الأردني، وهدوءُ الإنسان المؤمن بأنّ الكلمة مسؤولية. من خلف الميكروفون، لم يكن إبراهيم الحوري مجرّد مذيع، بل وجدانًا حيًّا يروي للأردنيين أخبارهم وهمومهم بصوتٍ يفيض بالطمأنينة. ذلك الصوت الذي لم يغب عن الذاكرة، ولا يزال صداه يتردّد في ذاكرة الإذاعة الأردنية.
وُلد إبراهيم الحوري عام 1944 في بلدة حور، الواقعة شمال غرب مدينة إربد في شمال المملكة الأردنية الهاشمية، في بيئةٍ قرويةٍ أصيلة، تفيض بالقيم والدفء الإنساني. هناك، بين السهول الخصبة والأرض المعطاء، تشرّب حبّ الأرض والانتماء للناس، وهي القيم التي ظلّت تنبض في صوته ومسيرته الإعلامية حتى آخر يومٍ في حياته.
تلقّى الحوري تعليمه الجامعي في جامعة بيروت العربية حيث درس الحقوق، لكنّ القدر قاده إلى طريقٍ آخر رسمه شغفه المبكر بالكلمة، وموهبته الصوتية المميّزة التي لفتت الأنظار إليه. ففي عام 1964 اجتاز بنجاح اختبار المذيعين والتحق بـ الإذاعة الأردنية التي كانت آنذاك في بداياتها الأولى، ليبدأ منها رحلة مهنية امتدت لأكثر من ستة وثلاثين عامًا، ترك خلالها إرثًا إذاعيًا غنيًا يعبّر عن مدرسةٍ من الانضباط والاحتراف في الأداء الإذاعي الأردني.
منذ بداياته، تميّز إبراهيم الحوري بصوته الرخيم، وأسلوبه المتوازن بين الجدية والدفء الإنساني، فكان من أبرز الأصوات المألوفة في نشرات الأخبار، والبرامج الثقافية والاجتماعية التي تابعتها أجيال من الأردنيين. لقد كان شاهدًا بصوته على أحداثٍ مفصلية في التاريخ العربي، من بينها حرب عام 1967 ومعركة الكرامة عام 1968 وحرب أكتوبر عام 1973. وفي تلك اللحظات العصيبة، كان لصوته وقعٌ خاصٌّ على المستمعين، إذ امتزجت نبرته الملتزمة بالحسّ الوطني الصادق، فكان حقًا من الأصوات التي شكّلت وجدان الناس في زمن التحولات الكبرى.
وفي مطلع الثمانينيات، برز الحوري بشكلٍ لافت من خلال مشاركته في تقديم البرنامج الإذاعي الأشهر في تاريخ الإذاعة الأردنية "البث المباشر" إلى جانب عدد من القامات الاذاعية. وقد شكّل هذا البرنامج نقطة تحوّل في مسيرته، إذ مكّنه من ملامسة هموم الناس وقضاياهم اليومية عن قرب، فكان صوت المواطن الذي ينقل شكواه إلى المسؤول بجرأةٍ مؤدّبةٍ وشفافيةٍ مهنيةٍ رفيعة.
بأسلوبه اللبق وقدرته على الحوار، استطاع الحوري أن يكون همزة وصلٍ بين الشارع والمسؤولين، في وقتٍ كان الإعلام صوت الناس الحقيقي، لا مجرد وسيلةٍ لنقل الأخبار. ولم يكن غريبًا أن يحظى البرنامج بمتابعة واسعة من كبار رجالات الدولة وعلى رأسهم جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال رحمه الله، الذي كانت له مداخلات إنسانية مباشرة خلال البرنامج، تعكس اهتمامه الكبير بقضايا المواطنين.
وبعد سنواتٍ من العطاء في عمّان، شدّ الحوري الرحال إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في منتصف مسيرته المهنية، حيث التحق بـ إذاعة أم القيوين، ليضع خبرته الواسعة في خدمة مؤسسةٍ كانت في طور التأسيس. هناك أسهم في تدريب وتأهيل الكوادر الإعلامية الشابة، ناقلًا إليهم روح الالتزام والدقة التي عُرف بها في الإذاعة الأردنية. ولم يطل غيابه كثيرًا، فبعد خمسة أعوامٍ من العمل والعطاء، غلبه الحنين إلى الأردن، فعاد عام 1987 إلى وطنه الذي أحبّه، ليستأنف نشاطه الإذاعي وليطلّ مجددًا على جمهوره من خلال برامج حوارية وثقافية واجتماعية متنوعة.
عاد الحوري إلى الإذاعة الأردنية أكثر نضجًا وتجربة، ليواصل مسيرته في البرامج التي أحبّها الجمهور، وفي مقدمتها "البث المباشر" الذي بقي أحد أعمدة البرامج الإذاعية الأردنية. كما قدّم سلسلةً من البرامج المتميزة، منها "جسور المحبة" للتواصل مع المغتربين الأردنيين في الخارج، و"أسماء ومسميات"، و"قرأت وسمعت ورأيت"، و"رواد من الأردن"، وغيرها من البرامج التي جمعت بين الثقافة والمعلومة والروح الإنسانية. وإلى جانب عمله كمذيع، تولّى الإشراف على التغطية الإعلامية للعديد من المؤتمرات والندوات والفعاليات الوطنية، فكان حاضرًا في كل موقعٍ يتطلّب حضور الكلمة المسؤولة والصوت الواعي.
ظلّ إبراهيم الحوري على مدار مسيرته الإعلامية وفيًّا لرسالته، مؤمنًا بأنّ الميكروفون ليس وسيلةً للشهرة، بل أمانة ومسؤولية أمام الوطن والناس. كان يرى أن الإعلام الحقيقي هو صوت الوطن لا صدى الأشخاص، وأن المذيع لا يقاس بقدرته على الظهور، بل بمدى صدقه واحترامه لعقل المستمع. ولهذا، حظي باحترامٍ واسعٍ في الوسط الإعلامي، وظلّ نموذجًا للانضباط والخلق الرفيع والتواضع في التعامل مع زملائه وجمهوره على حدٍّ سواء.
واصل الحوري عطاؤه حتى تقاعده عام 2000، بعد أن قدّم تجربةً مهنيةً راقية امتزج فيها الأداء بالإيمان العميق برسالة الإعلام. لم يكن متكلّفًا في حديثه، بل بسيطًا وصادقًا، يحرص على أن تبقى الكلمة نقية والنبرة صافية، كما كانت دائمًا منذ بداياته.
وفي عام 2011، رحل الإعلامي الكبير إبراهيم الحوري عن عالمنا، بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء والتأثير، ودُفن في مسقط رأسه بلدة حور بمحافظة إربد، لتبقى ذكراه حيّة في ذاكرة من أحبّوه واستمعوا إليه على مدى عقود. وقد ودّعه زملاؤه وأصدقاؤه ومحبو صوته بقلوبٍ مفعمةٍ بالوفاء، مستذكرين فيه الإنسان النبيل والمذيع القدير الذي خدم وطنه بالكلمة الصادقة والنبرة الهادئة التي ظلّت تسكن ذاكرة الأثير الأردني.
رحم الله الإعلامي والمذيع إبراهيم الحوري، وجعل ما قدّم من أعمالٍ في خدمة الوطن والمواطن في ميزان حسناته، فقد كان مثالًا للمذيع الملتزم، والإنسان الصادق، الذي ترك للأجيال إرثًا من الصوت النقي والرسالة الخالدة.