برحيل معالي الشيخ جمال حديثة الخريشا، فقدت الساحة الوطنية واحدًا من أهم رجالات الدولة الأردنية، ورمزًا عشائريًا ترك بصمته في السياسة والمجتمع والجيش على امتداد عقود طويلة. رجلٌ جمع بين الحكمة والبصيرة، وبين صلابة الموقف ودفء الانتماء، حتى غدا اسمه عنوانًا للثقة والنخوة في البادية الوسطى والمملكة بأكملها.
نشأة قائد… وبداية حكاية وطن
وُلد جمال حديثة الخريشا عام 1937 في الموقر، ونشأ في بيئة عشائرية تقدّر الشرف والكرم وتحمل إرث بني صخر بكل قيمها الأصيلة. منذ شبابه المبكر اتجه إلى الحياة العسكرية، ليدرس العلوم العسكرية ويحصل لاحقًا على بكالوريوس وماجستير في هذا المجال، واضعًا أولى خطواته على طريق سيقوده لاحقًا إلى مواقع القرار في الدولة الأردنية.
مسيرة عسكرية مشرفة
التحق بالقوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، وخدم لسنوات طويلة في ميادين مختلفة، من المواقع القيادية الداخلية إلى تمثيل الدولة في الخارج، حيث شغل مهمات عسكرية في سلطنة عُمان وأسهم في تطوير أداء البعثة الأردنية هناك.
كان ضابطًا صارمًا في انضباطه، لكنه قريب من الناس في طباعه، وهي سمة سترافقه لاحقًا في الحياة السياسية والعامة.
وزير ونائب وعضو أعيان… رجل دولة من الطراز الأول
لم تكن مسيرته العسكرية سوى بداية طريق أطول، فدخل ميدان السياسة بقوة حين انتُخب عضوًا في مجلس النواب، ثم تولى منصب وزير دولة في حكومتين، قبل أن يُعيّن عضوًا في مجلس الأعيان لعدة دورات، ليصبح أحد الوجوه البارزة تحت قبة الشورى.
تميّز الخريشا بقدرته على تمثيل صوت البادية بإخلاص، والدفاع عن مصالح المجتمعات المحلية، وإيصال صوتهم إلى موقع القرار، دون أن يغيب عن قضايا الوطن الكبرى، فكان رجلًا توافقيًا يحظى باحترام الخصوم قبل الحلفاء.
مكانة عشائرية راسخة
في محيطه العشائري كان جمال الخريشا شيخًا يُحتكم إليه، ووجهًا يحظى بمحبة واسعة.
عرفته بني صخر كريمًا، حاضرًا في أفراحها وأتراحها، حكيماً في نزاعاتها، وصاحب كلمة تجمع لا تفرّق.
وقد استضاف أكثر من مرة جلالة الملك عبد الله الثاني في مناسبات عشائرية، وهو ما يعكس حجم الثقة والمكانة التي حظي بها لدى الدولة والقيادة الهاشمية.
حكمة وتجربة… وأثر باقٍ
لم يكن الخريشا مجرّد مسؤول سابق، بل كان أحد رجالات الأردن الذين ساهموا في رسم ملامح مرحلة كاملة.
جمع بين خبرة الميدان العسكري وحضور السياسة وثقل العشيرة، ما جعله أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في محيطه، وأحد الأصوات الوطنية التي حافظت على الاتزان في أحلك الظروف.
زيارة ملكية… ثم وداع وطني
في الأيام الأخيرة من حياته، زاره جلالة الملك عبدالله الثاني للاطمئنان على صحته، في مشهد يلخص قيمة الرجل ومكانته.
ورحل معالي الشيخ جمال حديثة الخريشا في يوم سيبقى حاضرًا في ذاكرة بني صخر والموقر والأردن كله، تاركًا إرثًا من الحكمة والنخوة والوفاء للوطن.
رحل رجل، لكنه ترك وراءه تاريخًا لا يرحل.
ترك مدرسة في القيادة، وفي العشيرة، وفي الأخلاق، وفي الولاء للعرش والوطن.
وسيظل اسم جمال حديثة الخريشا حاضرًا كعلم من أعلام بني صخر… وركن من أركان الدولة الأردنية.