"الزعامات، في تواريخ الشعوب لا تهبط بالمظلات، أو تستجلب بطلب استيراد مختوم، أو تقام على أرجل خشبية ، أو تتحرك بخيوط خفية كما هو الأمر في مسارح الدمى، أو واضحة كما في النباتات الزجاجية.. إنها تخرج من أعماق الأرض، وتشمخ شموخ الأشجار، وتسد الأفق بقاماتها، وتترك في الوجود الحي للشعوب أصداء عاطرة لا تنتهي..
وإذا كان درسنا التاريخي وخطابنا الإعلامي قاصرين عن إيفاء كثير من زعامات الأردن حقها من الإضاءة والتحليل فآن بنا أن ننادي بضرورة تلا في هذا النقص الخطير في وعينا الوطني، وأن ننهض نحن خارج إطار المؤسستين التربوية والإعلامية، بأداء واجبنا في تعزيز هذا الوعي بأنموذجات الرجال الكبار الذين عرفهم تاريخنا المعاصر مثل حديثة الخريشة، وماجد العدوان، وكليب الشريدة وراشد الخزاعي ومحمد علي العجلوني وغيرهم كثير ...
إن الأجيال الأردنية الجديدة لا تعرف عن هؤلاء الرجال الأفذاذ شيئاً.. ولو أخذنا عدداً من طلبة الدراسات العليا في واحدة من جامعاتنا ، وسألناهم - مثلاً - عن ( حديثة الخريشة) - وبالمناسبة فأنا أدعو إلى تخصيص جائزة باسم هذا الزعيم الوطني للدراسات التاريخية الأردنية - فماذا هم قائلون؟!.
أيكون في وهم، أو في يقين عندنا، أن يستفيض أحدهم في حديث شائق عن مواقف هذا الرجل الكبير، فيخبرنا كيف أنه بعيد ثورة الكورة قد دخل على المغفور له الأمير عبد الله بن الحسين مستشفعاً في ( كليب الشريدة) ومعه ولداه علي ونايف، قائلاً.
كليب الشريدة ما ينعدم يا سمو الأمير، فخذ ولدي مكانه.
وكيف إنه قد آوى الشيخ : ( كليب الشريدة ) في ( الموقر ) حتى أصدر الأمير عفوه عنه.
أيكون في وهم أو يقين أن ينبري أحد هؤلاء الطلبة للحديث عن موقف حديثة الخريشة من ثورة العدوان وكيف استطاع أن يصدر عفواً من الأمير عن الشيخ (ماجد العدوان أيضاً، أو أن يبسط لنا شيئاً من طبيعة العلاقات الحميمة التي كانت تربط زعامات البلاد بعضها ببعض، ومن المواقف الأخلاقية والمروءات العربية الأصلية التي كانوا ترجمة حقيقية لها ؟
لقد كان حديثة الخريشة زعيماً كبيراً يلوذ به أحرار العرب أمثال سلطان الأطرش وشكري القوتلي اللذين فرا من وجه الفرنسيين، وكان من أولئك الرجال الذين يملكون همماً عالية وعقولاً واسعة وقلوباً رحبة حانية، فهل اتسع لهذه الشخصية العظيمة درسنا التاريخي أو خطابنا الإعلامي أو حتى تعليمنا الحزبي في تجربتنا الديمقراطية التي يكثر الحديث عنها ؟!
نحن في شك مريب من هذا كله.
لكننا في أشد اليقين من أن ذاكرتنا الوطنية ما تزال عفية، واعية على الرغم مما أصابها من أعطاب، وإنها إنما تستبقي الجوهري والأصيل وتنفي الزبد والجفاء، ولو كان ذلك أكثر شيء عددا ".