يتعرض المسجد الأقصى منذ احتلاله عام 1967 وضمن سياسة تمييز عنصرية لاعتداءات متواصلة من قبل الاحتلال الاسرائيلي، أبرزها قيام قوات الاحتلال ومنذ عدة اسابيع في انتهاك حُرمة المسجد الأقصى المبارك، واعتداءه على المصلين الفلسطينيين في محيط المسجد الأقصى المبارك، واعتقال العشرات منهم دون مبرر شرعي او قانوني، رافقها أيضا اقتحامات مستمرة من قبل المستوطنين اليهود لباحات المسجد الاقصى بحماية من قوات الاحتلال، ومن ثم اصدار قراره الأخير حول إجلاء اخواننا الفلسطينيين أصحاب البيوت الأصليين في حي الشيخ جراح من منازلهم لصالح إحلال المستوطنين اليهود مكانهم، في محاولة منه في المس بالهوية العربية الإسلامية والمسيحية لمدينة القدس ومقدساتها وتغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم.
وامام موقف المملكة الاردنية الهاشمية الثابت حكومة وشعبا ضد هذه الانتهاكات الصارخة وغيرها، وفي ظل الصمت والغياب الفعلي الرسمي للدول العربية تجاه تلك الانتهاكات، نود أن نطرح التساؤل الآتي:
هل تملك السلطات الرسمية للمملكة الاردنية الهاشمية طرقا قانونية أكثر فعالية وواقعية يتجاوز الشجب والادانة وضمن مبادئ القانون الدولي، يصل الى طلب انقضاء معاهدة السلام الثنائية المبرمة ما بينها وبين الاحتلال الاسرائيلي في تموز لعام 1994 او طلب وقف العمل بها كليا او جزئيا؟ علما ان هذه المعاهدة غير محددة المدة.
قبل الاجابة على هذا السؤال: نود ان ننوه بأنه استناداً لالتزامات الدول حسب القانون الدولي والقرارات الدولية، فإن القدس الشرقية هي ارض محتلة والسيادة فيها للفلسطينيين، والوصاية على مقدساتها الإسلامية والمسيحية هاشمية، يتولاها ملك المملكة الأردنية الهاشمية، ومسؤولية حماية المدينة هي مسؤولية دولية، وأن القدس الشرقية هي جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهي تخضع لأحكام القانون الدولي المتعلقة بالأراضي الواقعة تحت الاحتلال، واستناداً ايضاً إلى قرارات الشرعية الدولية، ومن بينها قرار مجلس الامن التابع للأمم المتحدة رقم (478) الذي يعتبر أن قرار إسرائيل بضم القدس الشرقية وإعلانها عاصمة موحدة هو قرار باطل، وأن كافة الإجراءات الإسرائيلية الأحادية في القدس الشرقية، سواء فيما يتعلق بالنشاطات الاستيطانية، أو مصادرة الأراضي، والتهجير، وتغيير طابع المدينة، هي إجراءات مخالفة للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والقرارات الدولية ذات الصلة.
وهذا ما أقرّته معاهدة السلام لعام (1994) في احكام بنودها، حيث الزمت اسرائيل بضرورة احترام وصاية المملكة الاردنية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية ومنع التهجير القسري في المسجد الاقصى ومحيطه، حيث نصت المادة (9/2) من تلك المعاهدة على انه: (وبهذا الخصوص وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستُعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن). كما نصت المادة (2/6) من ذات المعاهدة على انه: (ويعتقدان أيضاً أن تحركات السكان القسرية ضمن نفوذهما بشكل قد يؤثر سلباً على الطرف الآخر، ينبغي ألا يسمح بها).
وقد أكّدت أيضا تلك المعاهدة صراحة على ضرورة الالتزام بتنفيذ بنودها بحسن نية، حيث نصت المادة (25/2) من ذات المعاهدة بأنه: (يتعهد الطرفان بتنفيذ التزاماتهما بموجب هذه الاتفاقية، بحسن نية ودون الالتفات إلى الأفعال، أو الامتناع عن الأفعال، من قبل أي طرف آخر وبشكل مستقل عن أي وثيقة لا تتماشى مع هذه المعاهدة، ولأغراض هذه الفقرة يبين كل طرف للآخر رأيه وتفسيره، ولا يوجد أي تعارض بين التزاماتهما التعاقدية القائمة وبين هذه المعاهدة).
فهل تعتبر تلك الانتهاكات الصادرة عن الاحتلال الاسرائيلي -المشار اليها اعلاه- اخلالا بالالتزامات الواجب عليها احترامها بموجب معاهدة السلام الثنائية لعام 1994؟ تُخوّل المملكة الاردنية الهاشمية طلب انقضاء تلك المعاهدة او وقف العمل بها كليا او جزئياً ؟.
ان الاعتداءات الهمجية المتواصلة من قبل الاحتلال الاسرائيلي على المقدسات الاسلامية والمسيحية في المسجد الاقصى وعلى مصليه، واصدارها قرارات اسرائيلية تتعلق بتهجير السكان الاصليين من حي الشيخ جراح الواقع ضمن الاراضي الفلسطينية المحتلة لعام (1967) لإحلال مكانهم مستوطنين يهود، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تغيير الوضع القانوني والطابع الجغرافي ويؤثر ماديا على التكوين الديمغرافي للأراضي
العربية المحتلة وعلى وجه الخصوص في القدس الشريف، يُعدّ اخلالا جوهريا وتقويض لمعاهدة السلام الثنائية، وبالتحديد ما جاء في احكام المادة (9/2) والمادة (2/6) والمادة (25) من تلك المعاهدة، ويعد ايضا اخلالا جوهريا بالتزاماتها المفروضة عليها بموجب القانون الدولي، فوفقا للمادة (26) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام (1969) فإن: (كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية). كما نصت المادة (27) من اتفاقية فينا أيضا بانه: (لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة). وخالفت ايضا جميع القرارات الصادرة عن مجلس الامن المتعلقة بهذا الموضوع خاصة القرار رقم (446) والذي اوجب على الاحتلال الاسرائيلي بضرورة الامتناع عن اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يؤدي إلى تغيير الوضع القانوني والطابع الجغرافي والديموغرافي للأراضي العربية المحتلة منذ 1967 وعلى وجه الخصوص (القدس)، وعدم نقل سكانها المدنيين.
وقد هذا أثّر الاخلال على مكانة المملكة الاردنية الهاشمية بين المجتمع الدولي، وعليه فإن من حق المملكة طلب انقضاء تلك المعاهدة او ايقاف العمل بها كليا او جزئياً. لكن هل نصت معاهدة السلام ضمن بنود احكامها على هذا الجزاء ؟.
لم يرد ضمن احكام معاهدة السلام صراحة ما يخوّل أحد الاطراف طلب انقضاء تلك المعاهدة في حال اخلال الطرف الآخر بالالتزامات الواجبة عليه بموجب تلك المعاهدة، لكن بالرجوع الى ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي نجد حلا لتلك المسألة، حيث نصت المادة (60/1) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات بانه: (الإخلال الجوهري بالمعاهدة الثنائية من قبل أحد أطرافها يخوّل الطرف الآخر الاحتجاج به كسبب لانقضائها أو لإيقاف العمل بها كلياً أو جزئياً). وذلك بدلالة المادة (2) من معاهدة السلام لعام 1994 والذي جاء فيها: (سيطبق الطرفان فيما بينهما أحكام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول وقت السلم).
وقد بينت اتفاقية فينا لقانون المعاهدات الإجراءات الواجب اتباعها في مثل تلك الحالات -لا يتسع ذكرها في هذه المقام- لكن من ابرزها ما جاء في المادة (67/2) بانه أي إجراء بإعلان بطلان المعاهدة، أو انقضائها أو الانسحاب منها أو إيقاف العمل بها وفقاً لنصوص المعاهدة أو للفقرات 2 أو 3 من المادة 65 يجب أن يتم بوثيقة ترسل إلى الأطراف الأخرى – إذا لم تكن الوثيقة موقعة من قبل رئيس الدولـة أو رئيس الحكومة أو وزير الخارجية فانه يجوز مطالبة ممثل الدولة التي أبلغها بإبـراز وثيقة التفويض الكامل.
وفي الختام، وامام هذا الغضب الشعبي الاردني تجاه تلك الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة على المقدسات في المسجد الاقصى ومحيطه، والرفض الشعبي لتلك المعاهدة منذ تاريخ ابرامها، وفي ظل وجود سند قانوني وشرعي يخوّل السلطات الرسمية في المملكة الاردنية الهاشمية طلب انقضاء معاهدة السلام لعام 1994 او ايقاف العمل بها كليا او جزئيا مع الاحتلال الاسرائيلي لإخلاله الجوهري بالتزاماته الاتفاقية والدولية، هل ستقدم المملكة على هذا الخيار؟ لكن في المقابل -وفي ظل الظروف التي تشهدها المملكة والمنطقة بشكل عام- فإنها قد لا تملك القدرة على استخدام هذا الخيار دون تنسيق ودعم عربي اسلامي فعلي سياسي واقتصادي، فقضية المسجد الاقصى هي قضية عقائدية عربية اسلامية وليست قضية تخص الشأن الاردني فحسب، فلا ينبغي اطلاقا أن يبقى الرد الاردني والعربي والاسلامي تجاه انتهاكات الاحتلال الاسرائيلي منحصرة فقط بين الشجب والادانة.