"هلالة" و "حسن سَنْوَر"- رحمهما الله- اسمان كانا يترددان كثيرًا في عالم الطفولة في قرية حسبان، كان لكل واحد من هاتين الشخصيتين دُكّان من دكاكين زمان بكل ما فيهما من معنى: الباب القديم وعتبة المبنى، والعتمة داخل الغرفة نهارًا، لم أكن أجرؤ على الوصول إلى أيِّ من الدكانين ليلاً، فالطريق إليهما مخيف رغم قربهما من بيت جَدِّي، ولم تكن الكهرباء قد وصلت قرية حسبان آنذاك، كان ذلك في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات.
لم أكن أعرف القرية جيدا (شوارعها، وزقاقها الضيقة الممتدة والمتعرجة ودخلات القرية) كوني أجيء في الصيف ضيفة من (تبوك)، أذكر أنني عندما كنتُ أتوجه إلى أحد الدكانين كنت أنزل إلى طريق ترابية منحدرة إلى الأسفل، وعلى جانبي الأيمن سور حجري (سنسال حجر)، هكذا كانوا يسمونه لشبهه بالسلسلة، لكنها سلسلة من الحجارة تُصف بانتظام، وتشكل لوحات حجرية متناغمة، يشكل السور سلسلة طويلة على امتداد الطريق – وهكذا كانت أسوار بيوتات حسبان قديما - ويلتف حول منزل "حمدة المرايحة"، وعلى يساري (دور البياضية) التي تطلُّ على (قُرمية حسبان).
أسير ولا أبين للناظرتين (أمي وجدتي) اللتين تتابعاني من علٍ، وأواصل سيري صوب أحد الدكانين، كانت وجهتي في الغالب شطر دكان الشيخ "حسن سَنْوَر" فهو الأقرب..
أذكر أنني كنت أشتري منه أو من زوجته، جدائل الملبس ونوعاً من الحلو يُقال له (حامض حلو) والبرازق بحبتها الكبيرة والناشد، زوجته الحجة – هكذا كانوا ينادونها - امرأة لطيفة عُرفت بالكرم وطيب التعامل، تبيع الكل بل تعطي كل من يرتاد دكانها: من معه تعريفة ومن ليس معه، تخبز الطابون وتوزع معظمه، لا شأن لها بالمال أو الربح، تتبرع بما تجود به يدها قبل السؤال، لعل شالها الأبيض الذي كانت تتلفع به يعكس نقاءها وطيب تعاملها، وتعينه يداها المبسوطتان لطلاب مدرسة حسبان ومن حولها، الذين كانت تعدهما الحجة بمثابة أبنائها.
كان ما يُميز دكان الشيخ "حسن سَنْوَر" وجود نوع من التمر الأشقر الذي كان يأتيه من العراق ملفوفاً بسعف النخيل الجميل، وكان من ألذّ أنواع التمور..
كان الشيخ "حسن سَنْوَر" إمام مسجد حسبان الوحيد، وكان يمتلك صوتاً جميلاً جهورياً، فعندما كان يقرأ القرآن لا يقف صوته عند حدود المسجد، بل كان يتجاوزه عبر الفضاء ويخترق قلوب من يستمعون إليه من شدة حلاوته وأخذه بقلوب المستمعين؛ حتى أن أهل القرية كانوا يقولون: إنّ من يستمع إلى قراءة القرآن من الشيخ حسن لا يتردد بدخول الإسلام إن لم يكن مسلماً..
ثمّة عبق مختلف لدكان "هلالة" السيدة العظيمة التي كانت أرملة تقوم على تربية أبنائها، وتمنح الدفء لكل من حولها، وتحظى باحترام أبناء القرية الكبار والصغار، وكان يشهد لها القاصي والداني برقي المعشر وطيب الفعال، قيل إليّ: إن دكانها كانت بِمثابة المقهى لِ(ختيارية) القرية، فقد كانوا يجتمعون فيها في مساءات (حسبان) الجميلة، ويتبادلون الأحاديث عن أحوال القرية، ويتسامرون حول ناسها وهمومهم وذكرياتهم الطيبة.
وكان دكان "هلالة" المبني من الإسمنت على خلاف مسكنها المبني من طين يمثل رمز الكفاح، فقد كانت "هلالة" أيقونة للعمل الشريف والكفاح الصًّادق، ورمزاً للعطاء الذي لا يعرف الحدود، ومضرباً للمثل في أنها أخت الرجال الكرام. كانت تصحو والشمس على ميعاد، تعدّ حاجيات طلاب مدرسة حسبان التي تقع بالقرب من دكانتها – من جدائل الملبس ذات الألوان الزاهية، والكعك المدور، والنواعم الطرية وغيرها من بضائع ذلك الزمن الجميل، تعطي هذا، وتأخذ من ذاك، فدكانها ملاذ طلبة مدرسة حسبان في (الفرصة)، كانت ترتدي دائما (المدرقة أم ردون)، وكان وجهها ممتلئًا بالحب والعطاء والتّعب، وكانت تضبط البيع بمهارة فائقة، فيأخذ كل طالب حظه من الغذاء ليُكمل يومه الدراسي.
كان الطلاب ينهون يومهم الدراسي في منتصف النهار، أما هي فتُكمل الشطر الثاني من يومها بالزراعة وجني الثمر وأحياناً بالحصيد، دون ملل أو كلل.
نيّة الشراء كانت سهلة تبدأ من البيت - على رأس التلة - في حين أن التوجه إلى أحد الدكانين كان بمنزلة رحلة لا تقل عن رحلة الشتاء والصيف لقريش في أهميتها، إذ نروح بقطع معدنية حمراء قليلة، وب(شلن)، أو زيادة، أكون فرحة بما بين يدي، - ومن معي مثلي - محملة بأحلام كثيرة، وأسئلة كثيرة، وخيارات متعددة، ماذا سأشتري بالشلن؟ هل سأشاهد (الكازوز البارد) وهو يخرج من رحلته العميقة ومستقره لأشربه قبل أن أصل البيت، أم أنني سأحظى بالنواعم الطرية أم سأجمع بينهما، مازالت الأحلام تستبد بي والشلن يُغريني والطريق إلى (مول القرية طويل بخيالاتي)، وأنا أسير بجانب صفوف أربعة لمدرسة لا سور لها في شارع ضيّق مكشوف من موقع بيت جدي ؛ الذي كان يربض على رأس تلّة أشبه بالجبل -لارتفاعها- تشرف على حسبان كلها، أصحو على صوتٍ، لا بل على صوتي (جدتي وأمي) فهما تراقباني لئلا أتوه في الطريق، وتوجهاني بصوتهما العالي فرغم بعد المسافة فإن الصوت يصل؛ فالفضاء خالٍ، والأرض خالية سوى بيتين أو ثلاثة، وخيل عربية أصيلة تقف هنا وهناك، ودجاجات، وحمار يقوده بائع متجول ( دوَّاج) - لا أذكر اسمه - ربما كان اسمه "خليل" كان يغري النساء بشراء الشالات الملونة واللامعة والكحل و(الريحة والأساور)، وكانت أقفاص الطيور على جنبي الحمار تؤنس النساء بألوان ريشها، وتُغريهن بأصواتها الشجية لتشتريَ نساء حسبان.
لم أصل الدكان بعد، لكنني سعيدة بأحلامي بالثلاجة التي سمعت عنها، وشاهدت خروج (البارد) من بطنها مرات عديدة، فأنا بنت المدينة بحكم غربتي، لكن للبارد الذي كنا نبتاعه من ثلاجة "حسن سَنْوَر وهلالة" آنذاك طعمًا مختلفًا، فقد كان يُدلى في ماء البئر، في دلوه الأسود، يعانق الليل الدامس فيه، ولا يستفيق على نور الشمس؛ فالماء ماء مطر تجمع بفعل الشتاء، وطال مكوثه في البئر، نام (الكازوز) في حضن الدلو، تحرسه أجفان الحبل المعقود من أعلى باب البئر الذي أُحكم إغلاقه لئلا يميل الدلو فتقع زجاجات (الكازوز) في قعر البئر.
إنها رحلة (الكازوز) من باب البئر إلى قعره كرحلتي من أعلى التلة إلى الدكانين، في رحلة (الكازوز) يخرج لنا باردا ننتعش بشربته، ونهنأ به، وفي رحلتي أعود محملة بما لذّ وطاب، وما استقرّ في الذاكرة حتى الان.
وعند العودة أعود والعود أجمل إذ أجدني في الزقاق أسير - مرة أخرى - بحانب حجارة كبيرة تراصت وشكلت سلسلة من سور قديم، حضَنَ بين حجارته تاريخ حسبان وتراثها فبين كل حجرة وأخرى حكاية من حكايات حسبان، وكل حجرة هي قصة كفاح لامرأة أو لرجل من أبنائها وساكنيها…
د. إنعام القيسي
13- 9- 2023 م
الشكر الجزيل لأبي محمد (علي المشاعلة) فقد استزدت منه بما لا أعرف عن "هلالة وحسن سَنْوَر" رحمهما الله..