في قلب البادية الشمالية، حيث تُختبر الرجال بالأفعال قبل الأقوال، وُلد الشيخ مثقال الفواز، الرجل الذي ظلّ اسمه يتردّد على ألسنة الناس حتى بعد رحيله بسنوات طويلة. كان شيخاً لا تُعرّفه المناصب، بل تُعرّفه الهيبة الهادئة، والكلمة التي تسند الضعيف، والموقف الذي يشبه أعمدة الخيام؛ ثابتاً، أصيلاً، لا يتزحزح.
لم يكن الشيخ مثقال واحداً ممن يبحثون عن الضوء، بل كان الضوء يأتي إليه. تجده جالساً على فنجان قهوة، يسمع قصص الناس قبل أن يصدر حكماً، ويصنع مصالحة قبل أن تُفتح الأبواب للصوت العالي. كانت القرى والبادية تعرفه كما تعرف مواشيها وطرقاتها؛ رجل إصلاح قبل أن يكون شيخ عشيرة، وأب رحيم قبل أن يكون صاحب سلطة اجتماعية.
لم يعرفه الناس كرئيسٍ لبلدية صبحا لأربع دورات فقط، بل عرفوه كقائد يَعتبر أن خدمة أهله ليست تكليفاً، بل ديناً في رقبة كل من يتصدر للمسؤولية. خزائن البلدية لم تكن بالنسبة له وسيلة للمال أو النفوذ، بل كانت وسيلة ليترك أثراً، ليُحسّن طريقاً، أو يقف مع محتاج، أو يمدّ بصوت البلدية إلى حيث لا يصل صوت الناس.
في زمنٍ كانت فيه القيم تُقاس بالوفاء لا بالخطابات، أطلّ الملك الحسين بن طلال ـ رحمه الله ـ على صبحا عام 1997 ليزور الشيخ مثقال في بيته. لم تكن زيارة بروتوكولية، بل زيارة تقدير لرجل حاز احترام من حوله، وترك بصمة في حياة مجتمعه. يومها شعر أبناء المنطقة أن كرامتهم تُجدد، وأن صوت البادية لا يزال مسموعاً عبر رجالها الذين عرفوا كيف يحملونها على أكتافهم.
كان الشيخ مثقال "أبو دحام” مرجعاً في وقت الخلاف، وصوتاً هادئاً في ساعة الغضب. لم يعرف التكبر، ولم يُغلق بابه يوماً في وجه محتاج. كان يقول إن قيمة الشيخ ليست في عصاه، بل في قدرته على إصلاح النفوس. ولهذا، حين جلس ليحكم بين خصمين، كان الحضور يعلمون أن الحق سيُقال دون ميلٍ أو مجاملة، حتى لو كان على أقرب الناس إليه.
رحل الشيخ مثقال في الثامن من كانون الثاني عام 2014، لكن ذكره لم يرحل. بقيت سيرته تُروى في الدواوين، وابتسامته محفوظة في ذاكرة أبناء البادية. يقال إن بعض الرجال تُطفئهم الوفاة، وبعضهم يُضيئون أكثر، والشيخ مثقال واحد من الذين اشتعل نورهم بعد رحيلهم، لأنهم عاشوا حياة تستحق أن تُروى.
بموته، لم تفقد صبحا رئيساً سابقاً ولا شيخاً تقليدياً؛ فقدت ركناً من أركان حكمتها، ورجلاً كانت الكلمة عنده أمانة، والجار عنده حرمة، والناس عنده مسؤولية. ترك إرثاً من الطيبة والعدل، وترك في قلوب محبيه حنيناً لرجل من جيلٍ نادر، جيلٍ كان يحكمه الضمير قبل القوانين.
رحم الله الشيخ مثقال الفواز… فقد كان واحداً من الرجال الذين تُختم بهم صفحات الرجولة الحقيقية.