لم يكن رحيل الشيخ محمد عويد مطاوع الخضير حدثًا عابرًا في ذاكرة من عرفوه. فقد مضت السنوات، وبقي اسمه يتردّد كما لو أنه ما يزال يجلس في صدر المجلس، بهدوئه، وصوته الخفيض الذي لا يسبقُه إلا صمتٌ عميق، يحمل حكمة السنين وثقل التجارب.
كان الشيخ محمد الخضير من أولئك الرجال الذين إذا مرّوا في الطريق، مرّ معهم الوقار. وإذا جلسوا في مجلس، عمّ السكون احترامًا لهيبتهم. لم يكن يحتاج إلى كثير كلام، فوجهه وحده يحكي قصة رجل تربّى على مكارم الأخلاق، وورثها كما يورَث السيف والراية.
حكاية تبدأ من ميادين الشرف
وُلد الشيخ محمد في زمنٍ كانت الرجولة فيه فعلًا لا وصفًا. كبر وهو يرى الوطن أكبر من أي شيء، لذلك لم يتردد يوم نادى الواجب. حمل سلاحه، وشارك في حرب 1967، ثم في معركة الكرامة التي صنعت مجدًا وبطولة. في تلك المعركة أصيب، لكنه عاد واقفًا كما يعود الشجر إلى جذوره بعد أن تهزه الريح.
لم تكن إصابته وسامًا على جسده فقط، بل علامة على جيلٍ حمل الأردن في قلبه، ودافع عنه بصدق وإيمان. نال حينها تقديرًا رسميًا، لكنه ظل يقول لمن يهنئه: "أنا فعلت ما يجب… ما هو فضل ولا جميل.”
من ميادين السلاح إلى مجالس الوفاء
بعد سنوات الخدمة في الأمن العام، لم يترك الشيخ محمد طريق العطاء.
انتقل ليخدم الشريف فواز ثم القصر الهاشمي، بنفس الروح التي حملها وهو جنديّ على الحدود: إخلاص بلا ضجيج، وولاء بلا طلب مقابل.
كان أهل المجالس يعرفونه جيدًا. يجلس بهدوء، ينصت أكثر مما يتحدث، وإذا قال كلمة، وُضِعت في مكانها كالحجر الذي يُسدّ به الفراغ في البناء. أطفال القبيلة كانوا يرونه مثالًا، والكبار كانوا يصغون لحديثه كما تُصغى الأرض للمطر الأول.
رحيل… لكنه ليس غيابًا
في اليوم الذي رحل فيه الشيخ محمد الخضير، لم تبكِه عائلة واحدة، بل بكى رجال اعتادوا أن يجدوا فيه سندًا، وشيوخ عرفوا قدره، وأهل بني صخر جميعًا الذين كانوا يرون فيه صفحة من تاريخهم.
ومع مرور الزمن، بقيت قصته تُروى كما تُروى سيرة الرجال الذين لا يرحلون؛ أولئك الذين يمشون في الأرض قليلًا، ولكن يتركون أثرًا طويلًا.
بقي اسمه في مجالس العشيرة، في ذاكرة من خدم معهم، وفي قلوب أبنائه وأحفاده الذين يحملون إرثه الطيب كما يحمل المرء عطرًا قديمًا لا يبهت.
رحم الله الشيخ محمد عويد مطاوع الخضير، الذي عاش كبيرًا ورحل كبيرًا، وترك خلفه تاريخًا من الرجولة والوفاء لا يُنسى.
وما دام هناك من يروي سيرته، فذلك الرجل لم يغِب… بل ما يزال حاضرًا، يعلّم بالصمت، ويُلهم بالموقف، ويُحيا بقدر ما يترك من أثر.