في تصريح مثير للجدل، قال رئيس هيئة الخدمة والإدارة العامة:
"نبلغ الجيل القادم بأن من يُولد اليوم ويصبح عمره 75 عامًا لن تكون له فرصة في القطاع العام."
كلامٌ أثار تساؤلات مشروعة، وفتح الباب واسعًا أمام مخاوف مشروعة أيضًا، ليس فقط حول مستقبل التوظيف الحكومي، بل حول الرؤية العامة لإدارة الموارد البشرية في الدولة.
بعيدًا عن الصياغة الصادمة، لعل ما قصده رئيس الهيئة هو التأكيد على أن التوجه نحو تقليص أعداد الموظفين في القطاع العام أصبح أمرًا حتميًا بفعل التحول الرقمي والاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتنامي الكفاءة التشغيلية. لكن، هل هذا يبرر إصدار "حكم نهائي" على أجيال لم تولد بعد؟ وهل يُعقل أن نُحبط طموحات الشباب قبل أن تبدأ؟
نحن نعيش بالفعل في عصرٍ يتطلب تغييرًا جذريًا في إدارة القطاع العام، ولا أحد ينكر أن الجهاز الحكومي يعاني من الترهل في بعض قطاعاته، وأن هناك حاجة ماسة إلى رفع الكفاءة والإنتاجية. ولكن من المهم أيضًا أن ندرك أن القطاع العام ليس فقط جهة توظيف، بل مؤسسة خدمية، وذراع أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان استقرار الدولة.
الحديث عن أن "لا فرصة" لأبناء المستقبل في هذا القطاع، يتجاهل حقيقة أن التحول الإداري لا يعني بالضرورة الإقصاء، بل إعادة تشكيل الوظائف وتطوير المهارات المطلوبة. فبدلاً من تقليص الأدوار، يمكن إعادة توزيعها، والاستفادة من الكفاءات في مجالات التخطيط، الرقابة، السياسات العامة، وإدارة التحول ذاته.
الأخطر من التصريح، هو الرسالة التي يحملها: رسالة تشاؤمية، تُغلق الباب بدل أن تُفتح نوافذ الأمل. مثل هذه التصريحات ينبغي أن تكون مدروسة، لا سيما حين تصدر عن مسؤولين في مواقع مؤثرة. لأننا اليوم في حاجة إلى تعزيز الثقة لا هزّها، وبثّ الحافز لا الإحباط.
المطلوب من المسؤولين أن يخاطبوا الجمهور بلغة الواقع نعم، لكن أيضًا بلغة الأفق. أن يقولوا الحقيقة، لكن دون أن يتحول ذلك إلى إعلان وفاة مبكر لمؤسسة ما، أو قطاع بأكمله. فالدول لا تُبنى بالتصريحات الصادمة، بل بالخطط القابلة للتطبيق، وبالسياسات التي توازن بين الحاضر والمستقبل.
أجيال اليوم والغد تستحق خطابًا مسؤولًا، يضع التحديات في إطارها الصحيح، ويقدم الحلول قبل أن يصدر الأحكام.